الثلاثاء، 23 أغسطس 2011

الثورات العربية الراهنة..ألغاز مشفرة تحتاج إلى فك رموزها








الثورات العربية الراهنة..ألغاز مشفرة تحتاج إلى فك رموزها



بقلم ـ طارق الكرداوى




ثورتا مصر وتونس
يغرق المحلل السياسي في بحر من الحيرة والغموض حين يحاول تفسير الثورات التي تجري حاليا في أجزاء من الوطن العربي وما ستؤول إليه، والتي بات المجتمع الدولي- بكل اتجاهاته السياسية- يصفها بـ "الربيع العربي" . فهل هذا الوصف لرياح التغيير التي تهب على المنطقة العربية يصدق بالإطلاق، أم أنه مجرد سحابة صيف سرعان ما تذهب لحالها ؟.



ليس من شك أن هناك عناصر مشتركة بين هذه الثورات، تبرر وصفها بـ "ظاهرة" تعم المنطقة العربية بكاملها . ودون التعمق في البحث عن مدى دقة تصنيف تلك العناصر، نقول: إن أهميتها تكمن في إعطائها الشرعية لشعار "سلمية الثورة" التي رفعها الثوار في بداية ثوراتهم. وهذا ينطبق حتى على ليبيا التي تحول الصدام فيها بين الثوار والنظام، إلى صراع مسلح، ما يعني أن شعار "سلمية .. سلمية" لا يصلح العمل به إلا وفق ظروف معينة سيأتي الحديث عنها في فقرة لاحقة.



أما الخاصة الثانية والمؤكدة، فهي أن سبب هذه الثورات لا يرجع- بالدرجة الأولى- إلى انتشار الفقر بين نسبة لا يستهان بها من سكان البلاد التي تشهد تلك الثورات، وإنما لسبب آخر قد تجذَّر في سلوك المؤسسات الأمنية في النظام الرسمي العربي ، ونعني به استخدامه للعنف المغلظ في التعامل مع المواطن.



فقد تعرض الإنسان العربي لإذلال مهين، وديست كرامته بنعال رجال الأمن، ووجهت له إهانات لم تعد مقبولة حتى لدى العبيد واللصوص وقطاع الطرق وشذاذ الآفاق في أكثر الدول تخلفاً وافتقاراً لأصول حضارية أو قيمٍ دينيةٍ .. يحدث كل ذلك بدعوى الحفاظ على أمن الدولة والوطن والمواطن، بينما يعامل المواطن في بلده كمجرد رقم يقوم على خدمة الحاكم وأتباعه.



والدليل على ذلك أن الأحوال الاقتصادية في البلدان التي نجحت فيها هذه الثورات مثل مصر وتونس، تراجعت (إلى حد ما) عما كانت عليه. ومع ذلك لم نجد ذلك الغضب الذي كان يتأجج في النفوس على الأنظمة السابقة في هذين البلدين لسبب واحدٍ ، وهو أن شعور المواطن بكرامته كإنسان وحريته في التعبير عن آرائه ، هو- في حساباته- أقوم وأفضل بكثير من أن يأكل فاخر الطعام وطيب الشراب ثمنا لكرامته وشرفه.



ومع تسليمنا بهذه البديهيات ، نرى أن ثمة سؤالاً مركباً ومخيفاً يتردد على السنة الكثيرين حول ما ستؤول إليه الأمور في دول المنطقة، سواء الدول التي هبت عليها رياح التغيير أو تلك التي أحست بقرب قدومها، أو تلك التي ما زالت تعتقد بأن وفرة المال هو السد المنيع الذي يستطيع منع تلك الرياح من الوصول إليها وإبطال مفعولها ،،،



،،، هذا السؤال هو: هل يصدق توصيف ما يحدث الآن في بلدان المنطقة بـ"الربيع العربي"؟ .. وهل سيمتد هذا الربيع ليصل إلى باقي بلدان المنطقة التي ترزح جميعها (دون استثناء) تحت حكم أنظمة استبدادية فاسدة ومفسدة ؟؟ . وما المقومات والشروط التي ينبغي أن تتوافر حتى تنجح تلك الرياح في بلوغ غاياتها .. وهي كما نعلم القضاء على الأنظمة الاستبدالية وتوابعها من الفساد وعناصر الإفساد؟. وهل شعار "السلمية" التي تسود التظاهرات الصاخبة يمكن أن تحقق أهداف المتظاهرين، أم لا بد أن يلازمه- إذا ما اقتضى الأمر- عمل ميداني (من أي نوع)، يكون قادراً على مواجهة بطش الأنظمة المستبدة التي تحاول استخدام القوة المفرطة في قمع المظاهرات؟.



قبل محاولة الإجابة، على الإنسان العربي أن يدرك أمرين:





أولهما- أن شعوب البلدان التي هبت عليها رياح التغيير تجمع بينها خاصة مشتركة، وهي أن المواطن فيها قد تعرض لكل أنواع الإذلال والمهانة والاعتداء على كرامته وماله وعرضه. فقد كان المواطن فيها أرخص المخلوقات والموجودات ، وكانت ملاحقة المعارضين لأنظمة الحكم فيها واعتقالهم وتعذيبهم والاعتداء على خصوصياتهم أمراً سائداً ومباحاً.



الثاني: يتمثل في أن التظاهرات الاحتجاجية جاءت بمثابة رد فعل طبيعي لدى تلك الشعوب، أوجبه شعور المواطن بعجزه الكامل عن الحياة في ظل تلك الأنظمة، وأنه لم يعد يرى أدنى مبرر للسكوت على حاله البائس، حتى لو اقتضى الأمر أن يقضي نحبه من أجل الخلاص منه.



ومع قناعة هذه الشعوب- شأنها شأن عرب المنطقة- بأن صلاح الأنظمة الحالية الحاكمة يكاد يكون مستحيلاً، غير أنها غلفت تظاهراتها برفع شعار "سلمية سلمية"، وأظهرت أن أقصى ما تطالب به هو إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية تعين المواطن العادي على العيش الآمن والكريم في وطنه، برغم إدراكها أن هذه الأنظمة لن تستجيب لمطالبها، وأن الخيار الأمني سيكون الوسيلة الغالبة لقمع المظاهرات وتشتيتها، وبرغم إدراكها (أي الشعوب) أن أقصى ما تتمناه تلك الأنظمة أن يستخدم المتظاهرون السلاح بدلا من رفع شعار السلمية، حتى تجد المبرر الكافي لاستخدام أقصى درجات العنف ضد المتظاهرين وقمعهم وتقتيلهم.



غير أن تلك الأنظمة لم تعد ترى في شعوبها أكثر من "قطعان من البقر" تستطيع حلبها وذبحها متى شاءت، مع أن المُسَلَّم به أن هذه القطعان تستطيع أن تقضي على من يقودها إذا ما أحست بخروجه عن القواعد الصحيحة في التعامل معها. فإذا ما "هاج" القطيع فإنه ينطلق بقوة هرباً من هذا الخروج على المألوف، ليسحق تحت أقدامه كل من يواجهه حتى لو كانوا رعاته.



فإذا كان هذا هو حال الدواب حين تستشعر خطراً محققاً يداهمها، فكيف يكون حال البشر إذا ما أمعن الحكام الاستبداديين في ظلمهم واعتدوا على كرامتهم واستباحوا أموالهم وأملاكهم وانتهكوا أعراضهم؟!!.



والدليل على ظلم هؤلاء الحكام لأنفسهم قبل شعوبهم، أنهم كانوا دوماً على خلاف فيما بينهم، حول كل الأمور التي من شأنها- إذا ما تحققت- أن تعلي مكانة العرب بين سائر الأمم، وتضيق الهوة السحيقة التي تفصل بينهم وبين شعوبهم. أما بالنسبة للتعاون فيما بينهم في مجال وضع الخطط وتحديد الأساليب وتعيين الأدوات التي تعينهم في السيطرة على شعوبهم وكبت حريات مواطنيهم والتعامل معهم وكأنهم أرقام .. فكان الاتفاق حليفهم.



وأظهر دليل على ذلك، أن كل الاجتماعات التي عقدت تحت مظلة الجامعة العربية، فشلت في جمع كلمة العرب حول أي من القضايا التي تصب في صالح الشعوب العربية، عدا اجتماعات وزراء الداخلية العرب الذين كانوا دوما يخرجون بتوصيات موحدة، تستهدف جميعها البحث في أنجع السبل لاستخدام الخيار الأمني في القضاء على أية معارضة تواجهها بلادهم، إضافة لتبادل الخبرات فيما بينهم في هذا المجال!!!.



وعودة لمحاولة الإجابة مباشرة على ذلك السؤال المركب نقول:





أولا- بغض النظر عن تسمية رياح التغيير التي تهب على المنطقة العربية بـ "بالربيع العربي" والتي قد يكون الغرب قد أطلقها على غرار تسميته للثورة التي قام بها زعيم تشيكوسلوفاكيا في النصف الثاني من القرن الماضي "دوبتشيك" على الاتحاد السوفييتي، بربيع "براغ"، أملاً في أن تأتي هذه الرياح بالتغيير الذي يشتهيه الغرب ،،،



،،، فأحسب أن هذه الدول وبخاصة أمريكا وبريطانيا وفرنسا، لن تكون راضية إذا ما نجحت تلك الثورات في ترجمة مضمون هذه التسمية (الربيع العربي)، على النحو الذي يحقق التخلص من الأنظمة المستبدة، والقضاء بحق على الفساد والمفسدين فيها، وأن تنتهي بتولي الشعوب العربية زمام أمرها كما تريد هي، وليس كما يخطط لها الغرب المستعمر بشكليه القديم والحديث.



ونحسب أيضا أن هبوب رياح التغيير على باقي البلدان العربية التي لم تطلها حتى الآن هو أمر حتمي، ذلك أن المقومات والشروط التي يتطلب توافرها في كل البلدان العربية- الغنية منها والفقيرة على حد سواء- تتشابه مع تلك التي دفعت شعوب تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا للثورة على حكامها.



وليس من شك أن أهم تلك المقومات، يتمثل في إهدار الأنظمة الحاكمة لكرامة المواطنين وإذلالهم والتعدي على حرياتهم وحرماتهم، وهذا واقع يعيشه المواطن العربي منذ عقود ولا يحتاج لأدلة تثبت صحته.



وإذا كان هناك من يعتقد بأن الحالة الاقتصادية، هي العامل الرئيس في دفع شعوب تلك البلدان للثورة على حكامها فهو على خطأ بيِّن. والدليل على ذلك أن ثمة مؤشرات بدأت تظهر على مواقف شباب الدول العربية الغنية نحو أنظمتهم وحكامهم ، تشير- في مجملها- إلى قلق هذه الشريحة الهامة من المجتمع على مستقبلها، بسبب تفشي البطالة بين الشباب، والحجر على حرياتهم، وعدم إشراكهم في اتخاذ القرارات الخاصة بهم، وانعدام العدالة في توزيع الثروات بين مختلف شرائح شعوبهم، وتفشي الفساد بين النافذين في الأنظمة التي تحكمهم.



ثانيا- هناك من يحاول التشكيك في جدوى هذه الثورات، بدعوى أنها تسببت في تباطؤ النمو الاقتصادي وانتشار الفوضى وغياب الأمن وما إلى ذلك من أقوال لا تتمتع بقدر مقنع من المصداقية.



وبرغم تحفظنا الشديد على هذه التوصيفات المحبطة للثورات العربية الراهنة، غير أن هذا التباطؤ أمر طبيعي يحدث حتى في حالة الانقلابات العسكرية التي عادة ما يكون لها قادة خططوا لما سيقومون به مسبقاً. فإعادة الاستقرار السياسي والاقتصادي في البلدان التي تشهد انقلابات عسكرية على الأوضاع فيها، عادة ما يستنفذ ما لا يقل عن خمس سنوات حتى يعود الاستقرار للبلاد.



فإذا كان هذا هو حال ما يحدث بسبب الانقلابات، فكيف يكون ابالنسبة للثورات العربية التي انفجرت من أجل استعادة كرامة المواطن وإنسانيته وضمان حريتة (مثلما حدث في مصر وتونس والمتوقع أن يحدث في ليبيا واليمن وسوريا). فقد انفجرت هذه الثورات دون أن يكون لديها قادة ومخططات مسبقة تسترشد بها في القضاء على الأنظمة التي تحكمها.



صحيح أن الشباب هم من أشعلوا فتيل هذه الثورات، لكن الصحيح أيضاً أن الشعوب- بكل أطيافها السياسية والمجتمعية وفئاتها العمرية- هي التي قامت بهذه الثورات، والصحيح أيضاً أن هؤلاء جميعهم يفتقدون للقادة والخبرة التي تعينهم على اختصار الوقت لتحقيق الهدف الذي سعوا من أجل تحقيقه، وهو إسقاط النظام وتحطيم رموزه.





زد على ذلك أن شعار "سلمية الثورات" الذي يقضي بعدم استخدام السلاح ضد الأنظمة الحاكمة، أعطى الفرصة لتلك الأنظمة كي تستخدم كل ما لديها من أسلحة لقمع التظاهرات وقتل المتظاهرين وتعذيبهم. ومع ذلك نجح هذا الشعار بالنسبة لمصر وتونس في تحقيق ذلك الهدف، برغم الخسائر التي مني بها، والتي لا يمكن قياسها بما يحدث الآن في ليبيا وبدرجة أقل في سوريا.



غير أن هذا الشعار ثبت أنه لا يصلح التعامل به في جميع الأنظمة في المنطقة. فثمة وجود عوامل جغرافية مختلفة وتركيبٍ اجتماعي متباين وحتى تفاوت في ثقافة الولاء بين الأنظمة العربية، لا بد أن تتدخل في تحديد الوسيلة التي يلجأ إليها النظام في التصدي لتلك الثورات ومحاولة قمعها.



وهذا ما حدث بالفعل بالنسبة للثورة الليبية، حيث اضطر الثوار فيها لحمل السلاح حين تيقنوا أن نظام القذافي لن يتورع عن استخدام كل ما في ترسانته الحربية في القضاء عليهم (والتي تكلفت نحو خمسين مليار دولاراً خلال سنوات حكمة التي ناهزت الأربعين عاماً).



ولعل واقعة تدخل الطيران الفرنسي لمنع كتائب القذافي من إعمال مذبحة مؤكدة في مدينة طرابلس معقل الثوار، لدليل على عجز هذا الشعار "سلمية .. سلمية" لمنع الأنظمة من استخدام العنف المغلط ضد المتظاهرين، واختصار الوقت لبلوغ الهدف المرسوم، وهو إسقاط تلك الأنظمة بأقل الخسائر.



وهكذا يبدو واضحاً أن طبيعة التركيب المجتمعي للبلد الذي يشهد ثورة على حكامه، هي التي تحدد ما إذا كان على الثوار أن يتصدوا للأنظمة الاستبدادية الحاكمة بالسلاح أم لا.



ومهما يكن من أمر، فإن النهاية الحتمية للأنظمة المستبدة هي الزوال لا محالة طال الزمان أم قصر. ذلك أن الأسباب والدوافع المادية والمعنوية التي تقف وراء اندلاع الثورات في كل البلدان العربية هي واحده. كما تنطوي (أيضاً) على معنى واحد، وهو أنه لم يعد لدى الإنسان العربي (أينما وجد) ما يخسره بعد أن نُكِّل به وعًذِّب واستُحلت دياره، ونهبت أمواله، وهُتكت أعراضه، حيث أصبح الموت بالنسبة له أرحم من طلب الحياة.



والسؤال التالي الذي يحتاج لمناقشة موضوعية وجادة هو: إلى أي مدى يمكن لهذه الثورات أن تتصدى لمحاولات الغرب- وبخاصة أمريكا وفرنسا وبريطانيا- احتواءها وتجييرها لصالحه؟. هذا ما سنحاول التعرض له في مقال قادم إن شاء الله.


ليست هناك تعليقات: